رواية الكالا

alkala
رواية الكالا بقلم / ياسمين إسماعيل

الفصل الأول
تحت ستار الليل البهيم تسلل لبيت سيدنا ذي الكرامات كما يطلقون عليه مرتجفًا برعب من المكان المتطرف الذي يقع به البيت، لا يدور بذهنه إلا خاطر واحد “إن حدث لي مكروه ها هنا لن ينجدني أحد، ولو ظللت أستجير طوال الليل!” وأيضًا لما سيطلبه من سيدنا إن كان سعيد الحظ وسمحت له مساعدته بمقابلته اليوم.
بخطوات مترددة تقدم، وقبل أن تلمس يده الباب الخشبي ليطرقه انفتح، فسرت قشعريرة باردة على طول جسده الفارع فزعًا، لكنه كان أشد إصرارًا من أن يعود خالي الوفاض واتبع الضوء الخافت الذي ظهر أمامه من العدم كما أخبره الصوت الهامس بأذنه، وعلى حين غرة اكتسحت جسده المرتعش لَفحة سَمُوم رغم برد يناير القارس بالخارج حتى دخل غرفة منزوية لا يُضيئها إلا قبس من نار شديد الهُزال، انبعث من قصعة سوداء موضوعة أمام امرأة استقرت شمعتان في الهواء فوق رأسها، انعكس وهجهما على شعرها الأحمر ببريق غريب كأنما هو ألق من نار والتمعت عيناها كأعين القطط، فهمس بفزع ما إن رآهما:

أعوذ…
بسرعة بديهة رسمت على شفتيها المصطبغتين بالأحمر القاني أشد ابتساماتها إغواءً ومالت للأمام متعمدة إظهار زينتها من حافة ثوبها، تتساءل في نفسها باستغراب بالغ “أيريد حقًا أن يستعيذ بالله بحضرة سيدنا وخدمه السفليين؟! لِمَ أتاه إذن هذا الأحمق؟!”
اتسعت عيناه منشدهًا بحسنها الذي لم ير مثله من قبل وتحول مسار تفكيره لسؤال وحيد تفوه به دون وعي منه:

أجنية أنتِ، أم إنسية؟!
لم تُجب سؤاله، إنما قالت بهدوء بعدما دققت النظر لعينيه وهسهس شياطينها بأذنها:
ما تريده خطير جدًا حمدان.
كيـ.. كيف علمتِ باسمي، وبما أريده؟!
سؤال يدل على ذكاء باهر. أين تحسب نفسك بالمناسبة؟
رعدة خوف سرت بجسده وهو يجيبها:
فـ.. في دار سيدنا ذي الكرامات.
هتفت به مساعدة الساحر بغضب أضاف مسحة شيطانية على وجهها المحمر:
لا تراوغ! هذا ما يجمل به الناس حقيقة سيدنا. في دار من أنت؟
ثم صاحت به بنفاذ صبر: تحدث.

ساحر.

أحسنت، أنت بحضرة ساحرنا الأعظم عاصم بن عامر نجل أكثر السحرة علمًا.
تلفت حمدان من حوله بحثًا عن عاصم، فقالت له:

لن تراه، لكنه يسمعك. أستطيق ما يطلبه منك، أم تعود من حيث أتيت؟
انتفض جسده وأجابها بأحرف مرتجة:

سأطيق.. يجب أن تكون كنوز المقبرة الملكية لي مهما كان الثمن. لن أتركها لشرف أبدًا.
تحولت عيناها لأبيض عكر وقالت بهسيس أرعبه تنفيذًا لما نقله إليها خدمها من أوامر الساحر الراغب بإخضاعه له بالكامل:

كما تشاء.
ثم صمتت، وقال الساحر بصوت مزلزل:

شرف هذا ما اسم والدته؟

خضرة.
أخرج عاصم ورقة بيضاء من دفتره الصغير وكتب فيها شرف خضرة، ثم بدأ بحساب دلالة الحرف المتشابه بالاسمين لاختيار السحر المناسب وقال:

ما الضُر الذي تريد إلحاقه به؟

يفقد أمواله، يمرض، أي شيء، الأهم أن أسبقه بشراء المنزل الموجودة تحته المقبرة.
تخاطر عاصم مع أقوى خدمه الذي استدعى شيطانًا تحت إمرته لتنفيذ الأذى المراد بشرف، ثم قال:

سنحتاج تيسًا قربانًا وخصلة من شعر شرف أو بعضًا من أظافره، أي شيء من أثره، وكلما ازداد خصوصية؛ ازدادت قوة السحر.

الخادمة بقليل من المال تحضر كل ما نريده.
ثم سأل حمدان بعدما ذكر له عاصم مواصفات تفصيلة لذلك التيس:

هل أحضره حيًا؟

نعم.
سأفعل.
أتريد خاتم التوفيق؟
سأل حمدان ببلاهة:
ها! وبماذا سيفيدني؟
حينما تهم القيام بمشروع أو أمر ما استفت الحجر، إن تغير لونه، فمعناه خسارة أو خطر محدق.
التمعت عيناه ببريق الطمع وقال للساحر:

بالطبع أريده.
ثلثي ما حوته المقبرة لي.
موا…
غص حمدان ببقية أحرف كلمته بعدما تابع عاصم حديثه قائلًا:
وسنحتاج لطفل زوهري.
طفل؟! لِمَ؟
ستنحر عنقه بنفسك ليُقدم قربانًا، وبتعاويذي ودمائه سيدعك حراس المقبرة تدخلها آمنًا.
هتف حمدان بهذيان بعدما هب واقفًا وقد تجسدت صورة الصغير المغدور أمام عينيه:
لا، لا أريد. لم أعد أرغب بتلك المقبرة اللعينة، سأكتفي بالخاتم. كم ثمنه؟
ثلاثون ألفًا. حرر الشيك لحامله.

ذَيَّل حمدون الشيك بتوقيعه الذي جاهد ليتحكم بارتعاشة يده أثناء كتابته كي لا يفسد خطه، ثم أعطاه لعاصم الذي قال بعدما منحه الخاتم: –
ارتده بسبابتك، وانصرف قبل أن يحل عليك غضبي.
ثم أمر أحد خدمه بشل حركته قرب باب الغرفة وقال بتوعد إمعانًا في إثارة رعبه: –
إن ذهبت لغيري؛ ستروى المقبرة بدمائك أولًا.
وعندما انصرف سألت مساعدته بعجب: –
لِمَ فعلت ذلك عاصم؟! لولا قولك أنه من سينحر الطفل؛ لاستجاب لكل ما أردت.
– هو نفذ ما أردته بالفعل. ثم أضاف بنفس الغموض الذي لم تنجح في سبر أغواره يومًا رغم طول عشرتهما:
– ما تريدينه أنتِ أيضًا مِيرِيسَّا شديد الوبال، فاحذري!
*** مع إطلالة الشمس بأول أشعتها الذهبية الدافئة أنهت رواء ارتداء ملابسها في عجالة وقالت لزوجها: – من فضلك زياد أوصلني بطريقك، سيارتي بمركز الصيانة.
– حسنٌ، هيا بنا.
وصلت لمقر عملها بابتسامة بشوشة حَيَّت بها الممرضة التي استوقفتها أمام غرفة السيدة أحلام لتعلمها بآخر أخبار مريضتها العنيدة التي دخلت لها رواء بعد هنيهة متسائلة بعتاب:
– أبلغتني منال أنكِ رفضتِ تناول إفطاركِ كما فعلتِ مع عشاء البارحة، أهذا ما اتفقنا عليه؟ أغرقت الدموع وجه أحلام الذي لازال محتفظًا بجمال ملامحه الناعمة على الرغم من تغضنه والحزن العميق الذي سكنه وقالت ببكاء أوجع قلب رواء:
– لم يعد للحياة طعم بعد فراق ابنتي وحفيدي، قتلها بقلبي شوقي لهما.
انصب تركيز رواء لا إراديًا على طيف الشابة التي جاورت مريضتها محتضنة طفلها بقوة تتشمم عنقه باكية، لكنها ما لبث أن أخفضت نظراتها وأكملت حديثها قائلة بصورة طبيعية بعدما تصادمت نظراتها مع نظرات الشابة التي غمرتها الدهشة:
– أنتِ تحبين التحدث عنها وأنا سأستمع لكِ.
سألتها أحلام بلهفة: – أحقًا ستفعلين؟
– نعم، لكن يجب أن تأكلي أولًا.
– لا أريد، صدقيني أشعر للطعام غصة تسد حلقي.
– أعلم أنه قاسٍ عليكِ ما حدث لابنتكِ، لكن هل ستكون سعيدة وهي تراكِ معذبة؟! ثم صمتت قليلًا وسألتها آملة أن توافقها: – ما رأيكِ أن أطعمكِ بيَدي كما كانت تفعل رحمها الله؟
ابتسامة شاحبة ارتسمت على شفتيها المتشققتين، ثم هزت رأسها موافقة وقالت بشرود: – كانت ملائكية، نفحة من السعادة وهبها لي الله لتضيء حياتي. وابتلعت بصعوبة ملعقة الزبادي التي أطعمتها رواء إياها، ثم تابعت حديثها بحنين: – كانت كنسمة ندية تزرع البهجة أينما حلت. صفاء كان لها من اسمها النصيب الأكبر.
– أأنتِ من سميتها؟
– نعم، أتعلمين لازلت أذكر بسمتها المطمئنة بيومها الأول بالمدرسة، الحماس الذي التمع بِبُنِيَتَيَّها، ليالي السهر الطويلة بالثانوية العامة. تنهدت بشوق تغترف من تلك الذكريات زادًا لها يُعينها حتى تلقى ابنتها، ثم تابعت مغمضة العينين كأن طيف ابنتها يُؤنسها: – السعادة التي أضاءت وجهها حينما تخرجت بتفوق في كلية الألسن كما طَمحت وصديقاتها اللاتي التففن من حولها. وعلى ذكر صديقاتها اسودت ملامحها من شدة الغضب، ثم قالت ببغض خالص: – كلهن أحببنها إلا تلك الحرباء المتلونة!
قطع استرسالها في الحديث طرقات على باب الغرفة أعقبها دخول إحدى الممرضات بوجه ممتعض خاشية تكرار نزاعها اليومي مع مريضتها النكدة، لكن وجهها ما لبث أن تهلل عندما شاهدت رواء بجانبها وقد أنهت أحلام إفطارها كاملًا في سابقة من نوعها، فقالت بحبور: – شكرًا لكِ دكتورة رواء على رعايتكِ لها. ثم ناولتها العلبة البلاستيكية الصغيرة التي حوت الأدوية وزجاجة الماء بعدما أخذت صنية الإفطار وغادرت تحمد الله على وجود تلك الطبيبة الصبورة ضمن الطاقم الطبي المتميز لدار رعاية المسنين الفخمة التي تعمل بها، وعندما أغلقت الباب قالت أحلام بكراهية مستأنفة حديثها: – طالما حذرتها منها، لكنها كانت طيبة القلب ولم تعِ خبث سريرة من ظنت أنها صديقتها والحقد الذي أضمرته لها.
– يا إلهي! أكانت بهذا السوء؟!
– بل أكثر بكثير. عندما رفض زوجي من نبض قلب ابنتي بحبه حثتها على التمرد وظلت توسوس لها أن تمتنع عن الطعام لتضغط عليه.
– وماذا فعلت صفاء رحمها الله؟
– لم تستجب لها، لكنها أيضًا لم تملك حكمًا على قلبها وانزوت تنعي حبًا أُجبرت على التخلي عنه طاعة لأبيها.
– وماذا فعل زوجكِ؟
– لم يجد بدًا من القبول بعدما ظللتُ أُقنعه بمدى حرص مدحت على نيل رضاه، وأيضًا لحب ابنته الشديد له. استغربت رواء عدم زيارة أي من أفراد أسرتها لها منذ أتت لدار الرعاية وسألتها بدهشة:
– أين زوجكِ وابنكِ؟ لِمَ لا يزورانكِ؟! تحشرج صوت أحلام وفاضت عيناها بالدموع قائلة:
– لا أدري أيجب أن أحزن على حال زوجي، أم أفرح؟!

حافظت رواء على وجه ثابت الملامح لا يعبر عما يدور بداخلها وسألتها:
_ لِمَ سيدة أحلام؟
أجابتها ببقايا وعي متفلت بعدما صمتت هنيهة وقد بدأت تشعر بتأثير الدواء المُهدئ:
_ لقد أصيب بالزهايمر منذ خمس سنوات… كان قلبينا أنا وابنته يتقطعان عليه، لكنني… الآن أغبطه على تلك النعمة، يا ليتني أفقد ذاكرتي مثله كي أتخلص من العذاب المرير الذي أحياه!
ربتت رواء على كتفها تواسيها، لكنها غرقت في دوامة ذكرياتها، تهذي بانهيار:
_ أنا من أَلْحَحْتُ علـ… ليو…افق. سلمتها بيدي لقا…
وبسط عليهما الصمت الحزين سطوته بعدما استسلمت أحلام للنوم، إلا أن نشيجًا خافتًا جذب أنظار رواء عنوة لتلك التي لم تفارق مكان وقوفها بجانب أحلام، تهز رأسها نافية بألم وهي تهمس بكلمات عجزت رواء عن سماعها.


شحب وجه مِيرِيسَّا وأضحى كوجوه الموتى بعد التحذير الذي أربك حساباتها ما إن تفوه به عاصم، وقالت له باستياء لم تتمكن من مواراته:
_ لقد وعدتني أن تعلمني.
وجه سبابته إلى وجهها قائلًا بنفاذ صبر بعدما لكزها:
_ وأنتِ عاهدتني أن تصبري حتى أقرر أنا الوقت المناسب لتعليمكِ.
_ لماذا الانتظار؟!
أربد وجهه غضبًا، وقال لها:
_ أخبرتكِ مرارًا وتكرارًا ما تريدينه يتعدى بكثير قدرة تحملكِ الحالية.
فتحت فمها لتحدثه، لكنه أوقف الكلمات بحلقها قبل أن تجادله قائلًا باستهانة:
_ أعلم أنكِ تحسبين نفسكِ مستعدة، لكنكِ مخطئة.
ثم أصبح حديثه التحذيري أشد صرامة وهو يقول لها:
_ اكتفي بما تفعلينه بناصر وإلا…
ابيض وجهها تمامًا وقد غادرته دماء الحياة، ثم سألته بتلعثم:
_ أخبروك رغم مشاغلك؟!
مال بجسده مقربًا وجهه من خاصتها قائلًا بزهو:
_ لا توجد شاردة ولا واردة لا يعلموني بها ميريسا كي تبقى الأمور تحت سيطرتي ولا يفلت زمامها من يدي.
وأضاف بهدوء شديد تعلم جيدًا ماذا أخفى وراءه من تهديد لها:
_ الهي بدميتكِ كما يحلو لكِ، لكن لا تتطلعي لما يفوق هذا حتى أقرر أنا. أفهمتِ؟
نكست رأسها بخنوع تتقي شر غضبته وقالت بهدوء:
_ فهمت.
بدل عاصم موضوع حوارهما متسائلًا رغم علمه بالإجابة، إلا أنه أراد تذكيرها بما فعله لأجلها:
_ لماذا اخترتِ هذا العقاب بالذات؟
أحكمت ذكرى خروجها من بيت زوجها منذ سنوات مطرودة وثاقها على عقلها بعدما أخبر ناصر أخيه بما تضعه له من سائل أسود كريه الرائحة بطعامه، ولم يكتف بالقول فقط، بل أراه وهي تفعلها. ما زالت تتذكر وقفتها المصدومة بوجودهما معها بالمطبخ ممسكة بالزجاجة التي حوت السحر بين أصابعها المرتجفة، تبحث عن حجة تنقذها بعقلها الذي خذلها عندما هتف بها زوجها متسائلًا بحدة:
_ ماذا وضعتِ بطعامي؟
لم تجد سوى تبرير واهٍ همست به بخفوت رغمًا عنها لشدة جفاف حلقها:
_ بعض.. الفيتامينات.
سألها ناصر بتهكم:
_ أي فيتامينات ذات الرائحة العفنة هذه؟!
ابتلعت ريقها الجاف بعناء، ثم همست متلعثمة:
_ لا أذكر اسمها… وصفها الطبيب بالمرة الماضية.
دار من حولها بريبة حرص على إظهارها لأخيه الذي احتلت عينيه نظرات شك، ثم قال:
_ غريب أمركِ! لم يعتد منكِ أخي هذا الاهتمام بأدويته، دائمًا أمي من تتابع مواعيدها، أما أنتِ فإما تتسوقين أو تلهين بالنادي.
همست بندم أجادت رسمه على ملامحها أثناء مسحها لدمعات زائفات سالت على وجهها المحمر غيظًا:
_ اكتشفت خطئي وقررت إصلاحه كما نصحتني والدتكما…
ثم أضافت بمسكنة ناظرة لعيني زوجها:
_ كي أكون الزوجة الجيدة التي يستحقها حبيبي أمير.
لان وجه زوجها تأثرًا بدموعها وبالانكسار في صوتها، وشعر ناصر أن الأمر بدأ يُفلت من بين يديه وأن هذه الأفعى ستنتصر ككل مرة، فقال لها بخبث يُهادنها:
_ لا تحزني زوجة أخي، لا بد أنني مخطئ.
لمعة انتصار تلألأت بعينيها الزرقاوين ما لبثت أن انطفأت حينما تابع ناصر:
_ أعطيني زجاجة الدواء لأجعل الطبيب يبدله بأخر أفضل منه.
ثم جذب الزجاجة من يدها بعنف عندما شحب وجهها وقبضت أصابعها عليها بقوة قائلًا لها بسخرية:
_ ما أمهركِ! كدت أصدقكِ وأكذب عيناي، لكن ردة فعلكِ المتطرفة فضحتكِ.
ثم التفت إلى أخيه قائلًا برجاء:
_ لا تصدقها، هي تسممك وتحليل المعمل سيثبت لك.
نزعت عنها قناعها وقالت بكبر طالما كان رداؤها بعدما تيقنت أن معركتها خاسرة، وقد سئمت تملق زوجها العجوز الذي كرهته وأخيه البغيض بقدر شوقها لحبيبها الوحيد:
_ لم يكن سُمًا، بل سِحرًا.
حاول زوجها تخطي الصدمة التي نُقشت آثارها على وجهه المصفر، ثم هتف بحنق:
_ اجمعي ملابسكِ وفارقينا. من اليوم أنا أرمل، وأثير ماتت أمها.
انهار تماسكها حينما فاجأها زوجها بما لم يخطر لها ببالٍ وقالت بغضب:

_ لا، ابنتي خط أحمر! بأي حق تمنعني عن زيارتها؟ أخبرها أننا تطلقنا.
_ بل بموتكِ وإلا أسلمكِ للشرطة والدليل بقبضة أخي إن اتضح أنه سحرًا بدلته بسُمٍ.
فرت من بين جفنيها دموعًا حقيقية هذه المرة انهمرت على وجهها، وانحنت على ركبتيها بذل تقبل يديه قائلة:
_ أرجوك دعني أراها بوجودك! وحينما لم تلحظ أي تأثير لكلماتها عليه أو لخضوعها بين يديه سألته بحرقة:
_ كيف يطاوعك قلبك على حرمان طفلة في الثانية عشر من أمها؟ لم يرف له جفن، بل قال بقسوة لم تعتدها منه حاسمًا أمرهما:
_ ما لدي قلته، لا فائدة مما تحاولين فعله. أنتِ غير مؤتمنة عليها. فراقكما أفضل لها.
نفضت بجبروت عن عقلها ذكراها الأليمة ووجهت أفكارها إجباريًا للتركيز على انتصارها الغالي الذي صبرت لأجل تحقيقه ست سنوات كاملة. ست سنوات أهدرتها من عمرها لتعلم أصول علم السحر فقط لأجل اللحظة التي ترى فيها بعينيها عذاب ناصر على يديها، ثم أجابت عاصم بحقد تغلغل عميقًا بقلبها على ناصر بعدما نجا زوجها مما حاكته له بمخيلتها من نوازل حينما فاجأته نوبة قلبية حادة، فقد حياته على إثرها بعد أسبوع من رحيلها أنهى فيه أوراق الوصاية على ابنته، وكذلك أوصى بكل ما يخصه من أملاك العائلة إلى أخيه، تسترجع خططتها المُحكمة لمستقبلها التي خرباها لها وصغيرتها التي حرماها منها:
_ لم يشفِ بعضًا من غَلِيلي إلا شقائه بالهلاوس التي أصبحت لا تفارق صحوه، والكوابيس التي أزعجت منامه.
_ احذري ميريسا أن ينقلب سحركِ عليكِ! أنتِ لم تتقني التحكم بخيوطه كاملة بعد. وأضمر في نفسه أنه سيدعها تجرب لترى بعينيها مغبة تمردها ما دام بإمكانه احتواء أضرار عبثها.
*** تمطت رواء بكسل بعدما أنهت يوم عملها المرهق، ثم جذبت حقيبتها كي لا تتأخر على زياد الذي لا ريب ينتظرها بالأسفل منذ نصف ساعة على الأقل، وقالت ما إن جلست بسيارته:
_ آسفة حبيبي. أرادني المدير بأمر هام ولم أتمكن من الانصراف إلى أن وجدت حلًا للمشكلة التي واجهت الطاقم الطبي صباحًا.
ربت على كف يدها المستريح فوق فخذه أثناء قيادته بشوارع العاصمة المزدحمة نسبيًا في هذا الوقت من الليل قائلًا:
_ لا عليكِ، فخور بكِ بشدة. هذا الحماس الذي عاد يسكن عينيكِ هو كل ما أرجو.
مر الطريق الطويل إلى بيتهما بسرعة بعدما غرقت رواء بالنوم على كتف زوجها من شدة التعب، إلا أن الهدوء السائد تبددت هالته عندما صاحت وهي تتحرك بعنف أثار فزع زياد الذي جاهد ليستعيد السيطرة على مقود سيارته قبل أن يتوقف بها على جانب الطريق، ثم ربت على كتف زوجته التي صرخت بهستيريا باكية:
_ لا أسمع ما تقولين أقسم لكِ، لِمَ تفعلين بي هذا؟! لِمَ؟!
_ رواء، اهدئي… افتحي عينيكِ، لا تدعي كابوسكِ يسيطر عليكِ. ضمت نفسها إليه ما إن أبصرت عينيه القلقتين تطمئنه وتدثر نفسها الوجلة بأمان احتوائه، ثم قالت بهمس من بين أنفاسها المضطربة:
_ بشع زياد، ما رأيته بشع جدًا. مسح على رأسها يهدئها، ثم سألها بقلق:
_ ماذا رأيتِ؟
_ نفس المرأة ذات الثوب الذي تتقاطر منه الدماء، لكنها اقتربت مني كثيرًا حاملة طفلها… لم تتمالك نفسها، وغلبتها شهقات بكائها حينما قالت:
_ الذي تحول لرماد تفتت زياد وملأ غباره عيني.
رغم إشفاقه عليها مما ينتابها من كوابيس مروعة؛ كان عقله يفكر في أمر أخر بالغ الأهمية، وسألها:
_ هل تغير شيء أخر؟ رفعت رأسها عن صدره ناظرة لعينيه وقد زاد من إنهاكها التوجس الذي توشحه سؤاله إضافة للصداع النصفي الذي هاجمها بشراسة، ثم أجابته بخفوت:
_ نعم، أرتني طريقًا لبيت ما، وظلت تصرخ بحرقة أمامه بكلمات لم أسمعها إلا بنهاية الحلم. التفت إليها بكامل جسده وسألها بلهفة متوقعًا إيجاد حل لألغاز حلمها مستعصي الفهم:
_ ماذا قالت؟
_ لا أذكر، لا أذكر. ثم انتحبت بقلة حيلة هاتفة:
_ لقد تعبت. أنا أكاد أجن زياد. لا أدري لِمَ أنا! أو حتى ماذا تريد مني لتتركني بسلام.
_ اذكري الله حبيبتي، كل شيء سيصبح بخير.
_ متى زياد؟ لم يعد لدي مقدرة لتحمل كل هذا. قال لها بأمل لا يزال يتشبث به بكل قوته رغم ما يحدث لهما:

_ قريبًا رواء، فقط اصبري لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرًا! _ أريد أن نذهب إلى ذلك البيت عسى أن نجد الحل فيه! _ لا رواء، لن نذهب. ما تطلبينه غير منطقي بالمرة. صاحت به بقنوط:
_ وأي مما أحياه منطقي؟! أخفضت صوتها عندما لاحظت الضيق الذي ارتسم على وجهه، ثم قالت بهدوء:
_ وافق لأجلي… أرجوك! أوجعت قلبه كلماتها الراجية، لكنه قال بإصرار:

_ لا رواء، لن أستطيع مطاوعتكِ في هذا. فضلت تأجيل الحوار لوقت آخر وتعكزت على عضده القوي باستسلام وهما يصعدان لبيتهما، ثم انضمت له بالفراش منهكة وسقطت بنوم عميق رأت نفسها فيه سائرة بمنتصف قنطرة شديدة الضيق أسفلها هوة مليئة بأفاعٍ فاغرة الأفواه توازنت فوقها بصعوبة، وعن يسارها قطة سوداء الفراء غمرت قلبها الرهبة ما إن وقعت عيناها على لونها المُقبِض الذي ناقض البياض الناصع للقطة الوديعة التي وفقت عن يمينها،كلتاهما تموءان بأنين صاخب تريدان منها أن تنقذهما، وما إن مدت يديها للبيضاء وحملتها حتى تحولت لطفل جميل ذو رائحة مسكية ابتسم لها بحلاوة، ثم همس بأذنها:
_ أنقذي أبي. عندها قوست القطة السوداء ظهرها متحفزة، ثم نظرت لها ببغض قطر من عينيها الزرقاوين قبل أن تنقض عليها بشراسة. “
**** سحابة من البخور الكثيف غمرت أرجاء الغرفة الصغيرة الخالية إلا من منضدة أرضية تشقق خشبها، وُضعت فوقها قصعة شديدة السواد فاحت منها رائحة منفرة ومسند قماشي جلست عليه ميريسا التي تمتمت بإحدى التعويذات التي أجادت التحكم بالموكل بها الذي ما إن حضر حتى سألته بلهفة: _ كيف حالها؟ لم تدرِ لما شعرت بانقباضة بقلبها عندما هسهس خادمها: _ سأُريكيها.

شارك
ِAhmed Abdulaziz
ِAhmed Abdulaziz

مطور و مبرمج ويب متخصص في الووردبريس , و في أحيان أخري كاتب
#احلام_الناس_لا_تنتهي

المقالات: 113

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *