قصة محطتي الأخيرة، قصة قصيرة للأستاذ عبدالحميد الدال
محطتي الأخيرة .. أنهيت عملي يوم الخميس ، وقدراً كان آخر أيام الشهر والسنة ، أشعر بقدماي ينبضان – مع دقات قلبي المتسارعة – بالتعب ، وجسدي المنهك يكاد يتهاوى من ثقل الهموم ،
قطعت تذكرة مترو ، وزاحمت مناكب الخلق في الصعود للقطار.
استقر بي الأمر بعد دفع الناس الذاتي لي في آخر العربة ، بالكاد استطعت أن أدير رأسي لأرى الباب في الجانب الآخر الذي سأنزل منه عندما تأتي محطة وصولي..
وقع نظري على امرأة آتاها الله حسناً لم تر عيني قط له مثيلاً ، نظراتي إليها تقص ما استحى اللسان أن يفجعني به ، لم أستطع مقاومة تفاصيل الجسد الذي ينطق بثورة أنوثة طاغية ، شعرها الأسود الناعم يتدلى بانسيابية ، ومن ثناياه تظهر بشرتها البيضاء اللؤلؤية ، وعيناها القرمزية متصلان بأهداب اصطفت في دقة متناهية ، خدودها تنبثق منها خمرة وردية..!! والناس حولي في ملهاهم اليومي تعبث بهم الأقدار ، أراهم وكأنني لا أراهم ، أتلمس في حركاتهم وسكناتهم مسلكاً إليها ، يفاجئني أحدهم بيده يربت بها على كتفي..قائلاً : نازل يا أستاذ .. ؟!! أرسلت وابلاً من النظرات إليها..لمحتها متشبثة بمكانها..!!
هوى آخر بيده على كتفي وعاود سؤال الأول : نازل يا أستاذ.. ؟!!قلت له : لا..!!أفسحت له المرور ، ودفنت جسدي مرة أخرى في الزحام الذي يعتصر الأبدان محاولاً ألا أخسر موقعي الذي يسمح لي برؤيتها.واصل المترو سيره وهو يفتش في محطاته كعادته ، فيبتلع أجساداً ويلفظ أخرى ..!!
أخذت أفتش في ذكرياتي ، وأمر علي محطاتي بشكل عشوائي ، أتذكر اشياءً بعينها ؛ فيرتجف قلبي من بشاعة الذكرى ، وآلام الفقد ، ومرارة الحرمان ، كلما أبصرت هذه المرأة الفاتنة أتمنى أن أعاود السنين ..!!
عشت حلم الوهم في لحظة من عمري ، وتحركت مشاعر ظنتتها فنيت من وقت طويل ، نظرت إليها للمرة الأخيرة أستعطفها بتذلل أن تبادلني ولو نظرة واحدة ليس إلا..!!حدث ما لم يخطر على بالي ، بادلتني واحدة من نظراتها ، فهمت متسرعاً أنها لي ، واتخذت قراري بأن أنزل في المحطة القادمة ، وأشرت لها بأن تنزل معي فأومأت برأسها ..!!رقص قلبي طرباً ، بشكل هستيري هويت بيدي على كتف كل من أراه أمامي قائلاً : نازل يا أستاذ ؟! ..نازل يا أخ؟!..نازلة يا هانم؟! .. نازل يا بيه؟!..
وسع الجميع بشكل سريع وعجيب رغم الزحام ، وكأنهم يريدون أن يتخلصوا مني بأية طريقة ، دفعني الجميع خارج القطار ..!! وقع نظري عليها للمرة الأخيرة ، فأشاحت بوجهها عني ، ودفنت نفسها وسط زحام الأبدان ، حاولت أن أتشبث بالقطار ، وأعاود الصعود ، فمنعني تدفق النازلين معي وهم يقولون : محطتنا الأخيرة..!!