الوديعة “قصة قصيرة

انتهت لتوها أصابعُها تقرَّحت من نسج الخوصِ نعم، و لكن النتيجةَ جيدة..لا تبك يا صغيرُ ،أنا هنا !اخفض صوتك يا صغيريَ الأسمرَ الجميل.. لو سمعوا صوتك لن يرحمونا ..تنظرُ إليه تملأ عينيها منه و هو يرضعُ في سكينة ..أنا وطنك يا صغيري و ليتني ما كنت! أنا وطنك الذي مُلئ خوفاً و حروباً..تمنت لو عاد إلى رحِمها .. إنه المكان الذي كانت تأمن عليه فيه.. تتألم هي و لكن ليبق هو بأمان….صرخاتٌ و فوضى و خطواتٌ ترجُّ الأرض ..إن طفلاً يُذبحُ في الجوار !شعرت بيدٍ من ثلجٍ تعصِر حشاها ..قطعت عن الطفل رضعتَه الهانئة و هبّت تضعُه في تابوت الخوص و اندفعت من الباب تتجه نحو اليم مُخلِّفة ولديْها الفزعيْن يبكيان ابقيا..سأعود……
هذا الصغير لابد أن يعيش..اللهم اجعل صغيري هذا غُصةً في حلق ذلك الملعون..ماذا تفعل؟! و لماذا ؟! كيف أطاعها قلبُها على فعل هذا ؟!إن شيئاً يخبرها أن النهرَ أكثرُ أماناً من حِضنها.شيءٌ يخبرُها بأنه سيعود .. و أنه سيكون غصةً في حلق فرعون..تركت التابوت و فيه قلبَها على سطحِ الماءِ و ابتعدت أستودعك اللهَ يا ثمرةَ فؤادي … تشعرُ كأنَّ جيشاً من الشياطين يجتاحُها يطعنونها من كل صوب بعشرات الاحتمالات المرعبة ..يغرقونها بأطنان من اللوم و التبكيت.. لربما انقلب التابوت في الماء !لربما التهمه تمساح من تماسيح النيل !لربما لقيَه الجنود و هو يرقدُ الآن مفصولَ الرأس في مكان ما !
الحليب يغرقُ ثيابَها كلما فكرت في الصغير إن قلبها يسمع صوت بكائه قبلَ أذُنيها …..أرسلَت أختَه تقصُّ أثرَه و لم تعدِ الفتاةُ بعد ..و هي تمكثُ في البيت كجسدٍ غادرته الروح..انتفخت عيونها بالدمع تحاولُ أن تبدوَ قويةً و لا تعلمُ أن الذي يكتُمُ دمعَه يبدو أسوأ حالاً و أدعى للرثاء.لا مفر .. إن هذا البيتَ قائمٌ على قوتِها و جَلَدِهاليس مسموحاً لها بالانهيار.. هي تعلمُ أن الشيطانَ يرقصُ طرباً في أوقاتٍ كهذه ..إن لم يجد سبيلا ليشكِّكَها في ربِّها فسيجعلُها تشكُّ في ذاتها و في استحقاقها للرحمة..سيجعلُها تجلدُ نفسَها حتى الموت.قالت لنفسِها فجأةً : يا مسكينة ! و منذ متى كنتِ تحفظينه أو ترزقينه؟أحست و كأنها أصابت الشيطانَ في مقتل.. و كأنها تراه يقف مذهولاً و قد انغرست الكلمات القليلةُ في لحمهِ -لو كان له لحمٌ- كخنجرٍ من يقين.رفعت يديها لمن تركت صغيرها وديعةً عندهيارب.. من لهذا الضعيفِ الطاهرِ سواك؟!و من لهذه الضعيفةِ المذنبةِ العاجزةِ سواك؟!و من لهؤلاء الضعفاء الأذلاء سواك؟!تنزلت الرحمة ..و نزلت دموعُها .. و سكنَ قلبُها ،و لو لبعض الوقت…..
.طَرقاتُ ابنتها الصغيرة تكاد تزغرد على الباب المتهالكأماه أبشري ! الصغيرُ حي !لقد كان النهرُ أكثرَ أماناً من حِضنِها و كان بيتُ فرعونَ أكثرَ أمانا من رحِمِها !!كان وديعةً عند الله .. من ذا الذي يضيعُ عنده ؟!…..تخطو إلى القصرِ بخطواتٍ مرتعشة ترى الصغيرَ من بعيد.. الصغيرَ الذي دان لها بالوفاء ، و رفض كلَّ أمٍ سواها حتى أنهكَه البكاء.عاد الصغيرُ إليها .. ضمته حتى ارتوَت..أرضعته فكأنما عادا قلبين في جسد كما كانا منذ شهور قليلة …و كأنَّما توقفَ الزمنُ و اختفى الناسُ .. يتمتمان بحديث شوقٍ سريّ بلغةٍ لا يفهمها سواهما ..ذرفت دموعَ الشكر صامتةً لقد كان وديعةً عند الله.. من ذا الذي يضيعُ عنده؟!

بقلم | أماني عبد السلام
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

 
 

 

 

Translate »