فرط الرمان !!..
بدأت شهراً جديداً في وظيفتي ، أتقاضى منها عشرات من الجنيهات بالكاد تكفي حاجة أسرتي ، أسرتي صغيرة ؛ فأنا ممن عمل بإعلان ماما كريمة في التليفزيون عن تنظيم النسل ، فاكتفيت بإنجاب طفلين : هناء وحسين ..
دونت في مفكرتي حاجة أسرتي : عروسة لابنتي تشخص معها دور الأم ، ومسدس لعبة لابني يمثل به دور الضابط ، وزوجتي تشتاق لبطيخة ترطب بها على صدرها لهيب الصيف ، وخزين الأسرة لمدة شهر..
انتظرت قبض الراتب يوماً بعد يوم ، مر الشهر ثقيلاً حتى جاء موعد استلام الراتب ، وصادف يوم الخميس ، ويا له من يوم ! ..
سأسعد فيه ابنتي ، وسأكون أباً مثالياً في نظر ابني ، وسأجدد حياتي الزوجية بغزوة بعد أن تلتهم زوجتي البطيخة ..
استأذنت زملائي ، ووقفت في أول الصف عند الصراف ، استلمت راتبي ، أثارت الجنيهات عاطفتي الأبوية وغريزتي الزوجية ، أسرعت في خطواتي كأنني أطير على الأرض ، لا أبالي بتصبب العرق من جسمي ، اشتريت حاجتي من باب اللوق ، وضعت ما بقي من الراتب في جيبي ، وانتظرت طويلاً الأتوببس في المحطة ، معركة كل يوم في الصعود وإيجاد موضع لقدم ..
زاحمت مناكب الخلق ، أدهشني حصولي على مقعد علي غير العادة ، جلست ألتقط بعض أنفاسي ، وأجفف عرقي بمنديل من القماش المحلاوي ، سرحت في مشهد استقبال أسرتي ، سيتعلق ابني في رقبتي ، وسأحظى بأحضان من ابنتي ، وأسمع في لذة صوت زوجتي العذب تغني وهي تقطع البطيخة : ( وادحرج واجري يا رمان .. وتعالى على حجري يا رمان ..) ، وأنا آخذ حمام الهنا ، أنتظر في شوق طرح الرمان..
فاجأني كمسري الأتوبيس بصوته المزعج : مش طالعين يا أفندية.. مش طالعين يا هوانم ..الأتوبيس عطلان..انزلوا اركبوا اللي هناك ده !!..
كانت كارثة وأي كارثة ، فمن لم يركب معنا أكثر ممن ركب ، قفزت فوق الجميع ؛ لأحظى بفرصة لركوب الأتوبيس الآخر ، خانتني قدماي وقعت على الأرض ، تفتت البطيخة ، لم يهتم أحد بي ، لملمت نفسي ، ونهضت مسرعاً ؛ فالبطيخة تعوض لكن الأتوبيس لا يعوض ، صارعت حتى صعدت بدفع الركاب لي..
وجدت موضعاً لقدمي على السلم في يدي عروسة ابنتي ومسدس ابني وأغراض أخرى ، وعلى الأرض هناك فتافيت البطيخة ، بحسرة أنظر إليها ، لكني أقول : لا يهم سأضحي بثمن علبة سجائر وأشتري غيرها من مصروفي ، وضعت يدي لأطمئن على الراتب ، صرخت .. الراتب راح فين ؟! .. راح فين الراتب ؟!..
ضحك الجميع من حولي وهم يقولون : عملها فيك ؟! .. ربنا يعوض عليك يا أستاذ ..
بادلتهم الضحك بسخرية وأنا أردد في نغمة ذات إيقاع سريع :
ادحرج واجري يا رمان..
وتعالى على حجري يا رمان
دا أنا حجري جميل يا رمان..
ياخدك ويميل يا رمان
دا أنا حجري ستان يا رمان..
ياخدك ويبان يا رمان
دا أنا حجري حرير يا رمان..
ياخدك ويطير يا رمان !!..
تهامس الركاب من حولي : الراجل اتجنن ، وأخذوا يرددون معي في كورال جماعي ، وأنا أواصل الغناء في حسرة على فرط الرمان وهو بيدحرج ، وأمسح عرقي بالمنديل المحلاوي !!.
بقلم الأستاذ عبدالحميد الدال