رواية : إنتحار ميت ( الجزء الاول )
مقدمة
هذه هي المرة الأولى التي سيكون فيها الفراق حتميا لا محالة،
ولن يكون لديك الحيلة حتى تبقيني مرة أخرى؛ فقد تحررت أخيرا.. لم أكن أرغب في ذلك منذ البداية، ولم أكن أظن أنه سيأتي اليوم الذى أنوى فيه الرحيل بكل طاقتي؛ فقد كنت أظنك الملاذ والمأوى، ولكنى وجدتك المنفى الذى حلمت بالهروب منه والعودة لأصولي آمنة مطمئنة.
***** أتى أحمد من الخارج بروح وجسدٍ منهكين وثياب يعلوها بعض التراب، فسمع صوت أطفاله يخرج من غرفة الطعام، وقد بدا الأمر وكأن هناك شجارٌ خفيفٌ بينهم وبين ابنة خالته، اقترب قليلا من الغرفة، ونظر من طرف الباب المفتوح فإذا بها تدس الطعام في فم الاطفال دساً كأنها تحاول أن تنهى مهمةً مملةً تتضجر هي والأطفال منها، تصنعت الابتسامة وإظهار الاهتمام بهم بمجرد رؤيته.. بدون أن يبدى أية كلمة أحاط أبناءه بذراعيه، وخرج بهم متجها إلى الغرفة المغلقة،
وما إن فتح بابها حتى سمح لهم باللعب سويا، واتجه إلى الفراش، وجلس عليه رافضا أن يريح جسده بشكل كامل.. وإذا بباب الغرفة يُفتح فجأة لتدخل ابنة خالته متصنعةً الاطمئنان على الأطفال.. قابل الأطفال اهتمامها بانكماش ورعب؛ فطلب أحمد منها الرحيل بأعلى صوته مشيرا لباب الغرفة، ولم يهدأ حتى رحلت، وعاد الاطمئنان لأطفاله ليسترخي على الفراش مرة أخرى،
ويبدأ في قراءة تلك الكلمات المكتوبة للمرة المائة تقريبا.. قرأ أحمد تلك الكلمات وهو يسند رأسه على حافه السرير، ثم اعتدل مرة أخرى فى جلسته، وأمسك قلماً وكتب (قلبي الذى انخلع منى للأبد ترك لي هذه الكلمات القليلة ورحل).
***** هل سنلتقي؟ رضوى تتقلب فى سريرها معلنة فشلها فى استدعاء النوم مرة أخرى، ومقررة هزيمة الأحلام؛ بسبب صوت والدتها المرتفع، وهى تحادث خالتها عبر الهاتف، نهضت مغادرة فراشها تزيح عن نفسها الغطاء، وتمنت أن تزيح ما سوف تلاقيه في الخارج بنفس السهولة، وهي تعلم أن حال البيت دوما ما ينقلب عقب كل محادثة لأمها مع خالتها..
تخرج رضوى من غرفتها بكامل أناقتها؛ لعل هذا هو الحل الوحيد للهروب من المواجهة الحتمية.. تلقي السلام على والدتها في عجالة ثم تنطلق بسرعة نحو عملها كصحفية فى إحدى المجلات، وما أن وصلت إلا وصاح أغلب مَن في المجلة باسمها “، كل واحدٍ ينتظر منها طلب أو مساعدة، وهناك مَن يريد فقط أن يحادثها؛ حتى يشبع روحه من روحها المرحة.. كان ذلك يشعرها بأنها قائدة الفريق.. وفي هذا اليوم كان لديها تغطية صحفية هامة بالخارج _ أفسح الطريق يا بابا.. توقف في الصف يا سيدى.. قلنا توقف فى الصف.
ترفع عينيها فتجد شاباً ينظر لها بعينين يملؤها الغضب رافضا التحرك من مكانه.. _شكل الأخ جديد هنا.. من فضلك أريد المرور. _شكل الأخت لا تعلم أنى ليس بالأخ، أنا البااااش مهندس أحمد، أتيت إلى هنا للإشراف على بناء الجزء الجديد في المجلة، ولست من الصحفيين ممَن تقومين بتدريبهم. _أنا لا أدرب أحداً هنا، ولا رئيسة على أحد، أنا صحفية مثلهم وجميعنا أصدقاء، وهم معتادون منى على هذا النوع من المزاح، كما أنى متأسفة لم أكن على علم بكَ، هل تسمح لي بالمرور.
قالتها والخجل يملأ قسمات وجهها.. تجمد هو وتخلت عن قسمات وجهه نظرات الكبرياء والغضب، وحلَّ محلها نظرات الدهشة، أفسح لها الطريق، وظل ينظر لها وهى تمضى أمامه.. ثم قال بصوت خافت لائماً نفسه: _
كان من المفترض أن أقول لها تفضلي، ولا أظل صامتا هكذا. _تفضَّل يا أستاذ أحمد لتعاين المكان. قاطع أحد الموظفين شروده بتلك الكلمات.. وبعد أن أنهى عمل اليوم وهمَّ بالرحيل، أخدت عيناه تتنقل بين المكاتب؛ فربما عادت تلك المشاكسة، ولكنها لم تعد إلى مقر مجلتها في ذلك اليوم.. دخلت رضوى إلى البيت وهى متعبه، وسلمت علي والدتها في عجالة، وذهبت مسرعة إلى غرفتها.. _رضوى.. أريد التحدث معك في أمر ما. _في وقت آخر يا أمي. _ رضوى.. لن أطيل الحديث، فقط خالتكِ.. _خالتي أحضرت لي خطيباً، والجميع أصبح يتحدث عن كثرة رفضي للخُطَّاب، ومع ذلك وبدون أن أعلم مَن هو سأقولها لكِ أنا أرفضه، كفاكم. وانطلقت إلى غرفتها، وأغلقت الباب خلفها، تلمست درج مكتبها، وأخرجت منه صورة لوالدها وأخيها الأصغر، ووضعت تلك الصورة على المكتب، وأخدت تنظر لها نظراتٍ صامتة، وفجأة بدأت عيناها تتحرك إيابا وذهابا وهى ممتلئة بالدموع كمَن يبحث عن إجابة للسؤال الذى تطرحه دوماً، وتعلم أنها لن تجد الإجابة،
احتضنت الصورة بشدة، وذهبت إلى الفراش، ونامت بملابسها كما هي.. وما أن وضعت رأسها على الوسادة حتى غرقت فى نوم عميق.. بعد ثوان معدودة سَمعت والدة رضوى صرخة قادمة من غرفتها، صرخة خرقت سماعة الهاتف الذى كانت تتحدث عبره مع أختها.. _ابنتك تلك التي تصرخ يا سعاد! _ نعم يا أمل، ألم أخبركِ أن هذا الأمر لن يمر بسلام، سأطمئن عليها، وأعود لأطمئنكِ. توجهت الام لغرفة رضوى مسرعة لتجدها تبكى بشدة وكأنها شاهدت كابوسا مرعبا، وهى لا تزال تحضن الصورة الخاصة بأبيها وأخيها.. تجلس الأم بجوارها على السرير، وتقول: _أقسم لكِ يا رضوى أنه كان مجرد حادث، لا أنا ولا أبيكِ كان لنا ذنب فيما حدث، لماذا تودين تعذيب روحكِ؟، أكلما تقدم لكِ خطيب يحدث هذا معكِ؟ كفاكِ تعذيباً لنفسكِ بنيتي، كفاكِ.
***** استقل أحمد سيارته المتواضعة، وعاد إلى البيت العائلة بعد انتهاء عمله بالمجلة، واستقبل من قبل والدته بحفاوة، وكأنه عائد من سفر بعيد، فكان هذا الاستقبال اليومي يثير غيرة الأخت الصغرى عبير: _أممم.. ليس لنا نصيب في هذا النوع من الدلال! بينما أخته الكبرى الطبيبة النفسية البارعة “نهال” كانت دائما ما تنظر لهذا اللقاء نظرةً خبيثة من تحت نظارتها الطبية الراقية محملة معها بابتسامة خفيفة.. توجه لهن أحمد مبتسما ابتسامة المنتصر، وقال: _ ألن تكف إحداكن عن هذا الكم من الحقد والغيرة يوماً؟ ثم نظر لأخته الكبرى مستطرداً: -ها والخبيثة الكبرى، أليس لها تعليق أيضاً؟ _ لا تتمتع به جميعه بمفردك. وقالت بصوت خافت: وليبعد عنا هذا النوع من الدلال. دوماً يسمع أحمد تلك الكلمة من نهال، ولا يفهم ماذا تقصد..
الجزء الثاني من خلال الرابط التالي