أذكر – منذ عشرة أعوام – أنني مع مجموعة من الأشخاص تورطنا في سيارة ميكروباص ضيقة فوق معدية موشكة على الغرق. لا سبيل للفرار أو الوثب من النافذة مثلاً.. أنت لا تستطيع أن تحرك إصبعًا واحدًا من الزحام .. صراخ وابتهال وتلاوة شهادتين .. إن هي لحظات وتجد نفسك في قاع الترعة. عندما نجونا بمعجزة إلهية ما، أصيب أحد الركاب بهستيريا فراح يردد بلا توقف:
ـ”كنت حاموت يا ولاد الـ (….)..كنت حاموت يا ولاد الـ (….)..”
بدا لنا كلامه مستفزًا .. كلنا كنا موشكين على الموت فلماذا يتكلم عن نفسه فحسب؟ ثم قلت لنفسي إن هذا ما يهمه فعلاً. أنه هو من سيموت..
ينطبق الأمر على كافة أمور الحياة. للكاتب المبدع محمد المنسي قنديل قصة قصيرة تدور في محلج قطن، فترى في دهشة كيف تحول العالم كله لمحلج.. لا يوجد شيء آخر ولا يوجد وراء الجدران شيء.. مشاكل العالم وشهواته وهمومه هي ما يوجد منها داخل المحلج فحسب.
يتعود الإنسان حدود عالمه الضيق المحيط به، فيعتبر هذا هو الكون نفسه. عندما كنت في المدرسة كان المعلمون يلعبون في حياتنا بالضبط ما يلعبه رئيس الولايات المتحدة ورئيس فرنسا على الصعيد الدولي.. نفس الأهمية والخطورة. كل ما يدور حول هذا العالم الضيق لا قيمة له.
وكنا نتشاجر حول تعريف (الفولتامتر العياري) أو (قاعدة أورستد) كأننا نناقش أسرار الكون ذاتها، بينما الأمر لا يتجاوز حدوده: مجرد مدرسة ثانوية صغيرة في مدينة صغيرة.
تتشاجر مع حبيبتك – لو كانت لك حبيبة – فتندهش جدًا لأن الشمس لم تكسف ولأن الطيور ما زالت تتبادل المقاطع السيمفونية. يوبخك أبوك أو تمرض أمك فتتوقع أن يصير هذا (يوم التوبيخ العالمي) أو (الذكرى السنوية للمرض). كل شيء بالغ الأهمية ويؤثر في حركة أجرام السماء نفسها.
عندما كنت طالبًا، كنت الوحيد الذي يدرس الطب في أسرتي، لهذا اكتسبت أهمية مبالغًا فيها باعتباري أهم شيء في عالمي الصغير الضيق. كان أحد أقاربي المسنين يريد خدمة ما من المستشفى لذا طلب أن يذهب معي. بدأت المشاكل على الباب عندما استوقفنا رجل الأمن متشككًا، فقال له:
ـ”هذا هو الدكتور (فلان)..”
قالها وهو مندهش لأن رجل الأمن لم يجث على ركبتيه ويظهر لي آيات الاحترام. لقد صار العمال وقحين على ما يبدو. كانت هناك مجموعة من الممرضات فاتجهت نحوهن أسألهن عن طبيب معين. ردت علي إحداهن في غير اكتراث وهي تلوك اللادن، ثم ابتعدت مسرعة وهي تكمل دعابتها مع صديقاتها.
قال قريبي في غضب:
ـ”ما هذه الوقاحة؟..كان يجب أن يقفن في إجلال بانتظار أن تأمر واحدة منهن..”
طبعًا كنت أحاول في صبر أن أفهمه أنني مجرد طالب طب .. لست مدير المستشفى ولا وزير الصحة ولا مدير منظمة الصحة العالمية، ولا أحد يعرفني على الإطلاق هنا .. لكنه كان سجين عالمنا الضيق حيث أنا أهم شخص في العالم. لن أحكي لك عن خيبة أمله المتكررة .. حتى اقتنع في النهاية بأن العاملين في المستشفى وقحون جدًا ، وأنا ضعيف الشخصية بشكل مخز..
فيما بعد رأيت مثالاً آخر أكثر طرافة لهذا الموقف. عندما تخرجت في الكلية صرت أعمل في مستشفى كبير يستقبل مئات الحالات يوميًا. كنت أمشي في الممر متجهًا إلى القسم الذي أعمل به عندما استوقفني ذلك الفتى .. فتى يبدو أنه ريفي من القرى المحيطة بالمدينة. اتجه نحوي في ثقة وبخطورة سألني:
ـ”كيف حال العمدة اليوم؟”
العمدة؟.. إن المستشفى يستقبل ثلاثين عمدة على الأقل كل يوم. لابد أن هناك في هذه اللحظة عشرين عمدة في قسم الجراحة والعناية المركزة. لكن الفتى من قرية صغيرة، وبالطبع أهم شخص في قريتهم هو العمدة .. بالتأكيد يحسب أن سيارات الإسعاف راحت تعوي، وأضواء حمراء راحت تضيء في كل مكان من المستشفى، بينما صوت مذعور من مكبر صوت يردد:
ـ”عمدة قرية (فحل الجميز) هنا في المستشفى!.. يتم إلغاء الإجازات واستدعاء الأطباء!”
ولابد أننا رحنا نركض مذعورين، بينما وقف مدير المستشفى يجفف عرقه ويصرخ فينا:
ـ”عمدة قرية (فحل الجميز).. أنتم تعرفون ما يجب عمله! .. لا أريد أخطاء!”
وهكذا يعمل المستشفى كله على قدم وساق من أجل المريض المهم. وفي كل لحظة يأتي تقرير بالحالة:
ـ”عمدة قرية (فحل الجميز) قد ارتفعت حرارته .. عمدة قرية (فحل الجميز) يشكو من صداع .. عمدة قرية (فحل الجميز) يشكو من أن الوسادة غير مريحة..”
لم أستطع أن أخبر الفتى أنني لا أعرف عمدة قريتهم .. لذا قلت له في تحفظ:
ـ”بخير. لكن حالته ما زالت خطرة..”
قال بصيغة آمرة وهو يشير بسبابته إلى صدري، مع لهجة تهديد لا شك فيها:
ـ”أرجو أن تهتموا به أكثر من هذا.”
ثم انصرف ماشيًا بثقة كأنه صاحب المستشفى.. يكفيه أنه من ذات القرية التي صار العمدة عمدة لها..
كلنا نعيش في عالمنا الضيق فيما يسميه الغربيون brain in a vat أو المخ المحفوظ في إناء زجاجي. فجأة يتجرأ المرء ليدرك أن هناك عالمًا خارج الإناء الزجاجي، وعالمًا خارج جدران الغرفة. تقريبًا هذا ما فعله العالم الأمريكي إدوين هابل الذي توفي عام 1953، عندما استعمل أقوى وأكبر مرصد في الكون وهو تلسكوب (هووكر) فوق جبل ويلسون ليفحص سديم (أندروميدا) النجمي. هنا رأى لشدة دهشته أن السديم يحوي نجومًا لا تختلف عن نجوم درب التبانة الذي حسبه العلماء هو الكون. إذن الكون لم ينته بعد. هذا يعني أن الكون يمتد إلى مسافات مروعة وأننا بمشاكلنا وحياتنا ضئيلون جدًا.
مع الوقت تدرك أنك موظف صغير في بلدة صغيرة .. وهذه البلدة توجد في بلد من العالم الثالث .. وهذا العالم الثالث يوجد في كوكب صغير اسمه الأرض .. الأرض كوكب في مجموعة شمسية صغيرة .. والمجموعة الشمسية ضمن مجرة صغيرة في الكون الفسيح المليء بالمجرات…
قل لي بربك: كيف أعرف أخبار عمدة (فحل الجميز) بعد هذا؟